بذهن حاضر وذاكرة منّ الله عليه بها، استقبلني الرجل متكئاً على عصاه، وتملأ الابتسامة ثغره، وعنوانه الكرم . . ربما تلك هي المرة الأولى له في مواجهة “فلاش” كاميرا وقلم صحفي، إلا أنه كان راوياً جيداً، يجيد فن السرد طبقاً للتسلسل الزمني، ولا يغيب عنه التأكيد على المعلومة مرة واثنتين، وفي ثنايا التفاصيل ومضة، لا يفوّتها .
نحو 3 ساعات قضيتها إلى جوار المواطن جمعة علي حمدان يتوم المراشدة (90 عاماً) في منزله بمدينة كلباء . . لم ترهقه الساعات قدر ما شعرت بحشرجة صوته من أثر الحنين إلى شباب ولّى، وأحداث ووقائع باتت مجرد ذكريات توجعه تارة وتضحكه أخرى .
رحلة اللاعودة
في أوج الحرب العالمية الثانية، وتحديداً في العام ،1942 كان المراشدة صبياً في عمر الثامنة عشرة، وكان الوجود الأجنبي له آثار كبيرة في تضييق مصادر الرزق على الناس، فكانت المنطقة تعيش على قطاعي الصيد والزراعة فحسب، وكان الرزق شحيحاً والحياة صعبة، ما كان يدفع العديد من المواطنين إلى السفر خارج الدولة في رحلات بحرية طويلة، هدفها التجارة، لتعزيز الدخل، وكانت تطلق على تلك الفترة “أيام الأسفار” .
كان الشاب جمعة المراشدة يتيم الأبوين، ويقيم مع جده لأمه وأخواله، ولعشقه للبحر والأرض، فقد عمل في الزراعة قبل أن يعمل بالصيد لدى “النوخذة” حميد بن عبد الله نحو ست سنوات قبل أن يدفعه الطموح إلى مغادرة كلباء باتجاه رأس الخيمة سيراً على الأقدام، فلا طرق حديثة ولا مركبات متطورة، ليشق طريقه كبحار خارج الحدود .
يقول المراشدة: بدأت رحلة اللاعودة من إمارة رأس الخيمة على سفينة نقل بضائع أو كما يسميها “الخشبة”، إلى سلطنة عمان لنقل شحنة فحم وأحطاب إلى رأس الخيمة مجدداً، وفي الطريق اعترضت السفينة الشراعية عاصفة شديدة كادت أن تحطمها، ما دفع القبطان لتغيير مسار الرحلة ومهمتها، فتم الرسو بولاية خصب بعد 7 أيام في البحر، ومن هناك نقلنا شحنة مواشٍ وأغنام إلى البحرين التي مكثنا بها شهراً كاملاً حتى تهدأ العواصف ويستقر الطقس، ومن البحرين التي كانت في تلك الآونة مركزاً مهماً للتجارة، صادفنا شحنة “براميل بترول” ينبغي نقلها إلى الهند، وتولينا المهمة، وفي الطريق واجهتنا عاصفة ثانية أقوى، اضطررنا معها إلى التخلص من نصف حمولتنا في البحر تجنباً للمخاطر، وعلى مقربة من مدينة كراتشي بباكستان واجهنا زلزالاً بحرياً، وكانت الفترة تلك موسم الأعاصير والعواصف فلم يكن غريباً ما وجدناه حتى وصلنا مدينة بومباي بالهند وأفرغنا ما تبقى من حمولتنا .
كان ينبغي على جمعة ورفاقه تعويض الخسائر التي لحقت بهم نتيجة التأخير في البحر، وخسارة نحو نصف حمولتهم، ففي مومباي قرر ربّان السفينة والعاملون عليها التوجه إلى مدينة بنجلور والتي كانت تشتهر بتجارة “القرميد” أو الطابوق الأحمر، وبالفعل قام العمال على السفينة ومن بينهم جمعة المراشدة بتحميل شحنة قرميد أحمر .
الى هنا ومنذ بداية الرحلة يشار إلى عدم عودة بطلها إلى وطنه، لتبدأ رحلة الاغتراب بإفريقيا بوصول شحنة الطابوق الأحمر إلى مدينة دار السلام بتنزانيا بعد 40 يوماً في عرض البحر بسبب هدوء الرياح، عانى فيها البحارة الأمرّين جوعاً وعطشاً لنفاد الغذاء والشراب اللذين كانا بحوزتهم .
حطت السفينة رحالها بميناء دار السلام، ومنها والحديث هنا للمراشدة: توجهنا حاملين شحنة أخشاب إلى “زنجبار”، وهناك نشب خلاف بين عمال السفينة وأنا منهم مع القبطان، وقررت الهرب من السفينة والبقاء في زنجبار، أو كما يطلق عليها أرض القرنفل (المسمار)، لشهرتها بتجارة هذا النبات .
لم يخطر ببالي أني سأواجه مشكلة بعد مغادرتي السفينة، فلم أكن أمتلك جواز سفر يخول لي التحرك بعيداً عن السفينة التي كنا نعمل عليها بتصريح .
ويضيف: عملت بتجارة القرنفل بزنجبار وكانت تحت الاستعمار البريطاني والنفوذ العماني وكان يحكمها آنذاك (سعيد خليفة برغش)، وكنت شاهداً على الانقلاب عليه وما سمي ثورة زنجبار للتخلص من السيطرة العمانية، وحدثت في تلك الفترة التاريخية مجازر إثنية وتطهير عرقي للعرب بزنجبار بعد حصولها على الاستقلال بنحو شهر . . كل هذا لم يضعف من عزيمتي وإصراري على النجاح، وبعد 3 سنوات قضيتها في زنجبار عملت خلالها في العديد من المهن، وتعلمت لغة أهلها وكونت العديد من الصداقات، قررت التوجه إلى جزر القمر عبر البحر وبشكل غير رسمي، وعملت بها لفترة في مطعم للمأكولات الفرنسية، وكنت أصنع الخبز العربي هناك .
لم ترق بيئة العمل بجزر القمر للمراشدة كثيراً، وفي رحلة لم تكن بالحسبان وطال أمدها، يغادر باتجاه مدغشقر ليحط رحاله بمدينة “ماجنكا” بالقرب من العاصمة “أنتاناناريفو”، وكانت حينها مدغشقر تحت الاستعمار الفرنسي .
يضيف المراشدة: وحصلت من السلطات الفرنسية على تصريح عمل مؤقت لمدة عام، حاولت بعدها العودة مجدداً لجزر القمر نتيجة ضجري بمعاملة الفرنسيين وشوقي للإمارات التي كنت أنوي العودة إليها من جزر القمر، وتحطمت السفينة التي كنت على ظهرها، وفشلت في استكمال الرحلة، فعدت مجدداً إلى “ماجنكا”، بعد 3 أيام وأنا عالق على حطام السفينة، وبدأت أتأقلم مع الوضع هناك، فتعلمت لغتين جديدتين من اللغات السواحلية، كما أتقنت الفرنسية وكوّنت العديد من الصداقات، وبدأت في التجارة حيث فتحت مطعماً لبيع المشويات، ومحل بقالة صغير، وكان عمري يكبر شيئاً فشيئاً، فتزوجت من مواطنة “مالاجاشية”، وأنجبت منها ابني الأكبر “علي” . . وعشت هناك أكثر من 20 عاماً حياة متوسطة عملت فيها بكل المهن التي تتخيلها، وعاصرت خلالها منح شارل ديغول الاستقلال لمدغشقر .
رحلة العودة المحفوفة بالمخاطر
سألته: ألم تكن تشتاق إلى بلادك؟ . . فقال المراشدة: كنت أبكي كل يوم منذ استقراري في مدغشقر، حاولت كثيراً العودة إلى وطني، ولكن لم أكن أمتلك جواز سفر، فأنا أحدثك عن فترة زمنية إبان الحرب العالمية الثانية وما بعدها بقليل عندما غادرت الإمارات . . لم يكن بها أوراق ثبوتية بمفاهيم اليوم، وفشلت في شراء ذمم الفرنسيين لعدم امتلاكي المال اللازم حينها لتسهيل مغادرتي . . كنت طوال سنوات أتابع أخبار بلادي عبر الإذاعة البريطانية حتى سمعت في يوم اسم مدينة كلباء ومقتل أحد ولاتها وسيطرة الإنجليز على الحكم . . وكانت لي شقيقة وحيدة تعيش في الإمارات، وخلال تلك السنوات الطوال كنت أحاول مراسلتها وكنت أبعث بخطابات بلا ردود، وعلمت فيما بعد أن رسائلي لم تكن تصل . . وفي نهاية الستينات كانت نواة الاتحاد تتشكل، وكانت إمارة الشارقة قد لحقت بركب التطور الإداري، ووصلت إحدى رسائلي لشقيقتي الوحيدة، التي قامت باستخراج جواز سفر لي ولابني علي من سلطات إمارة الشارقة .
جمعت ما أملك من النقود وساعدني أصدقاء كثر، ودفعتها لزوجتي من أجل أن تتنازل لي عن ابني “علي” حتى يُسمح له بالسفر معي إلى وطني .
لم تخلُ رحلة العودة أيضاً من العراقيل، فسافر المراشدة وبرفقته ابنه الوحيد جواً من مدغشقر إلى جيبوتي، ومنها إلى اليمن حيث تم توقيفه لعدم الاعتراف بجواز سفره لمدة 40 يوماً حتى تم السماح له بالسفر إلى الكويت، ومنها إلى البحرين التي انطلقت منها آخر طائرة تقلُه إلى أبوظبي ليعود إلى وطنه بعد غربة دامت 34 عاماً، عاد بعدها ليشهد بعد أيام من عودته رفع علم اتحاد الإمارات العربية المتحدة .
اختلافات كبيرة
كانت دبي في طريقها إلى التطور، وأبوظبي كانت بها سيارات حديثة وبنايات بالإسمنت . . عندما غادرت كلباء، لم تكن هناك طرق أو سيارات أو مستشفيات، والبيوت كانت بالطين، وعندما عدت وجدت بلادي متحدة، والمدن مغايرة فالكهرباء وصلت الذيد، والمسافات أصبحت شيئاً في غاية السهولة . . يختتم المراشدة معبراً عن انبهاره بما وجد من تغييرات بالدولة بعد انتهاء رحلة غربته .
استقر به المقام في مسقط رأسه بمدينة كلباء، وعمل بالدفاع المدني ولم يعتزل مهنته الأصلية (الصيد)، وتزوج مرتين ولديه اليوم في عمره التسعين، أسرة كبيرة من الأبناء والبنات والأحفاد قوامها 45 فرداً، بينهم الطبيب والمهندس والمعلم والضابط . . “علمتهم وربيتهم زين . . قالها مبتسماً” .
عندما هممت بوداعه مغادراً المنزل سألته: هل تفتقد إلى مدغشقر وزنجبار؟
أجاب متأثراً . . نعم فقد مضيت بهما عقود شبابي، وتعلمت هناك أشياء كثيرة ولي ذكريات عديدة، وأحمد الله على عودتي لوطني وأرضي .
كتب: وليد الشيخ