في السابع من نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1981، ملأت الزغاريد منزل ذوي الشهيد سيف محمد سيف بالروب القبيسي في إمارة الشارقة، فرحاً بمقدمه ليكون ترتيبه الثاني بين إخوته العشرة، وكان للخلق الرفيع والتدين الأثر الطيب في تكوين شخصيته وصقله بالأخلاق الكريمة الأصيلة، كما كان حنوناً وبارّاً بوالديه، ولم يكن فقط الأخ والصديق لإخوته، وإنما كان يعاملهم على حد تعبيرهم، كما يعامل الأب أبناءه، ويعطف عليهم ويسأل عن أحوالهم، ويهتم بجميع شؤونهم الصغيرة قبل الكبيرة.
ومن أبرز الصفات التي كانت تميزه الهدوء والذكاء المتقد، والتفوق في دراسته، إذ كان في مراحل دراسته الأولى بمدرسة الخالدية في أبوظبي يحصل على الترتيب الأول بين زملائه في الفصل، وحين لا يحالفه الحظ في ذلك ويأتي ترتيبه الثاني كان يحزن أشد الحزن ويعاقب نفسه، وكان والداه يحاولان التخفيف عنه لشدة تأثره بذلك بجلب الهدايا، ويؤكدان له أنه قادر على تعويض ما فاته ليكون في طليعة المتميزين على الدوام كما عودهم، فتبوأ طوال مسيرته العلمية والعملية المراكز الأولى ومراتب التميز قبل أن يرتقي لمنزلة الشرف الرفيع والأسمى في سبيل الوطن، وينال الشهادة.
وكانت معاملته راقية مع الجميع، ومحباً وودوداً، وشجاعاً لا يخاف من شيء، ولم يكن يقبل الهزيمة أبداً، ويفكر ملياً قبل اتخاذه لأية خطوة، كما كان منبع الرجولة والوفاء والإخلاص بحبه لوطنه ولوالديه ولولاة أمره، كما كان عقله أكبر من عمره، ويقرأ أفكار المقربين إليه قبل أن ينطقوا، كما وصفه أفراد أسرته.أمنية حياته
كان الشهيد سيف محمد سيف بالروب القبيسي، يحب الطيران ويتمنى أن يكون طياراً منذ طفولته، فحين تمر طائرة في السماء يتابعها حتى تختفي بإعجاب شديد، وعندما بلغ ربيعه العاشر قال لوالده: «أبوي حلوة الطيارة»، فرد والده متمنياً له أن يحقق الله أمنيته قائلاً: «إن شاء الله تطلع طيار»، وحقق الله له ما أراد، والتحق بكلية خليفة بن زايد الجوية في مدينة العين.
الوطن أغلى
«صح الابن غالي لكن يبقى الوطن أغلى وكلنا فداء للوطن»، بهذه العبارة استهل محمد سيف القبيسي، «والد شهيد» المقدم طيار سيف محمد سيف بالروب القبيسي، وصفه لولده سيف الذي كان يرى جمال الحياة من عينيه، والذي كان بالنسبة إليه صورة طبق الأصل عن شبابه وطموحاته وأحلامه، لذلك كان ألم فقده موجعاً له بكل ما تحمله كلمة وجع من معنى، وصادماً
في الوقت نفسه، إذ إنه لم يكن يتوقع أن يأتي اليوم الذي لا يرى فيه سيف كل يوم ويكحل ناظريه برؤياه، ويضمه إلى صدره كلما اشتاق إليه، لذلك لم يستطع والد الشهيد أن يخفي دموعه خلال حديثه مع «الخليج»، لأن فقد شاب مثل سيف وبصفاته وبطموحاته وإنجازاته كما يصفه، خسارة للوطن قبل أن يكون خسارة لذويه.
وتابع الوالد قائلاً: «استشهاد ولدي وسام وفخر على صدورنا جميعاً نتوارثه جيلاً بعد جيل، وأحمد الله وأشكره ليل نهار بأن منّ عليّ بلقب والد الشهيد»، لافتاً إلى أنه حرص على زيارة جميع أسر شهداء الإمارات الذين جادوا بدمائهم وأرواحهم من أجل إعادة الأمن والاستقرار والشرعية لليمن الشقيق، وقطع المسافات الطوال من مقر إقامته في ليوا بالمنطقة الغربية في إمارة أبوظبي ليصل إليهم جميعاً في كل إمارات الدولة، ليقول لهم: «قبل أن أعزيكم أو أن أعزي نفسي باستشهاد أبنائنا، أهنيكم وأهني نفسي باستشهادهم، لأن هذه منزلة عظيمة كل إنسان يتمناها، وثلاثة أشياء لا يمكن المساومة عليها مطلقاً، هي: الله ثم الوطن ثم ولاة الأمر، فهم خط أحمر نفديهم بأرواحنا».
وأضاف: «أرفع أسمى آيات الشكر والعرفان لقائد مسيرتنا صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، وأدام عليه موفور الصحة والعافية، وصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي رعاه الله، وصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، لما قدموه لنا كأسر الشهداء من جل اهتمام سموهم ورعايتهم واحتضانهم لنا بكل حب، وتخصيص يوم 30 نوفمبر/ تشرين الثاني من كل عام يوماً للشهيد، فهذا بحد ذاته يزيدنا فخراً وعزة حتى نظل نذكرهم ونذكر تضحياتهم لحماية هذا الوطن الغالي، وأطال الله في أعمارهم وأمدهم بالصحة والعافية ليبقوا لنا ذخراً وفخراً بين شعوب العالم، ونحن بهم أسعد شعب، فهم ولاة أمورنا ولهم السمع والطاعة في السراء والضراء».
رسالة لآباء الشهداء
ووجه «والد الشهيد» المقدم طيار سيف محمد سيف بالروب القبيسي، رسالة إلى جميع آباء الشهداء، قال فيها: «أنا والد الشهيد المقدم طيار سيف محمد سيف علي بالروب القبيسي، قدمت أغلى ما أملك ليبقى الوطن قوياً آمناً، وغرست في أبنائي حب العطاء للوطن منذ طفولتهم ولقيادتنا الغالية، وأن وطننا العظيم يستحق أن نبذل في سبيله الغالي والنفيس، وأن نبذل أرواح أبنائنا الغالية فداءً لتراب دولتنا، وأشكر رب العالمين لأني أصبحت أباً لشهيد».
وطني منذ الطفولة
أثبت الشهيد سيف محمد سيف بالروب القبيسي، جدارته وتميزه خلال مسيرته المهنية، وتدرج في المناصب، وعندما تمت ترقيته إلى رائد اتصل بوالده في الساعة الثالثة عصراً ليبشره بالخبر، وقال له: «أريد أبشرك بترقيتي»، فقال له والده: «ألف مبروك يا ابني ولكل مجتهد نصيب، ولكن أوصيك»، فقال له: «آمر»، فاستطرد الوالد: «حط دولتك في عيونك»، فتبسم سيف وضحك وقال: «يا بوي إنت من طفولتنا زارع فينا حب الوطن، ومن وإحنا صغار شربتنا الوطنية والانتماء له، وما أقبل توصيني الآن على وطني لأنه أغلى من نفسي وأغلى شيء في الدنيا».
موعد مع الشهادة
ارتقى المقدم طيار سيف القبيسي، في 27 فبراير/ شباط من عام 2014 الماضي إلى بارئه بسقوط طائرة تدريب عسكرية كان يقودها برفقة المقدم طيار عبد العزيز عبيد سعيد العبدولي أثناء مهمة تدريبية اعتيادية، لينضم إلى قائمة الشرف والخلود.
شرف في الحياة والممات
قالت أم بدر «والدة الشهيد»: «ولدي سيف زادنا فخراً في حياته وبعد استشهاده ليبقى اسمه خالداً مسطراً بين أسماء العظماء في صفحات تاريخ دولتنا الحبيبة الإمارات، ومثل ما كان مشرفنا بحياته شرفنا بمماته، ولقد كان حلمه أن يصبح طياراً منذ طفولته، وعشق السماء وها هو الآن يعانق شموسها وأقمارها الساطعة، ولقد فاز بجنان الخلد، وكما كان في الأرض سفيراً لوطنه، هو الآن في السماء يحيطه بعيونه وقلبه الذي فاض حباً لبلاده فأكرمه الله بالشهادة لتبقى راية وطنه خفاقة شامخة».
أما «عمته» أم حمدان فقالت: «فقدنا ابناً بارّاً شهماً، لكن عزاءنا فيه أن يتقبله الله من الشهداء، وفخري أن لأبنائي أخاً شهيداً يعتزون به دائماً وأبداً، رحمه الله ورحم الله كل شهداء الواجب».
أبناء الشهيد
بعد تخرجه في كلية خليفة بن زايد الجوية في العين، تزوج الشهيد المقدم طيار سيف محمد سيف بالروب القبيسي، ورزقه الله خمسة أولاد، هم: زايد (10 سنوات)، ومحمد (9 سنوات)، ومنصور ونهيان وفارس في الروضة.
وقال محمد «ابن الشهيد»: «فخورون باستشهاد والدنا، فهو مصدر اعتزازنا، وأنشأنا هو وجدي على حب الوطن والتضحية في سبيله والاعتزاز بالانتماء إليه».
أما منصور ونهيان وفارس، الذين رحل والدهم وهم بعد لم يقو عودهم ولم يمنحهم القدر الوقت ليستمدوا منه ما يكفيهم من الحب والعطف والحنان، فإنهم على الرغم من صغر سنهم عبروا عن فخرهم بأنهم أبناء الشهيد سيف، وعاهدوا الله والوطن والقيادة الرشيدة على أن يسيروا على درب والدهم، ويبذلوا كل غالٍ ونفيس في سبيل الحفاظ على أمنه واستقراره، لتبقى رايته مرفرفة في أعالي السماء.
فصل آخر من الألم
كان زايد القبيسي، ذو الأعوام العشرة، الابن البكر والفرحة الأولى لوالده الشهيد سيف القبيسي، يحلم بأن يصبح طياراً مثل والده، ويكمل المشوار الذي بدأه، وكان يردد «والدي بطل أتمنى أن أكون في أحد الأيام مثله»، لكن هذه كانت الأمنية الأخيرة التي باح بها زايد قبل وفاته إثر إصابته بمرض في الكبد، حيث لفظ أنفاسه الأخيرة يوم 29 أغسطس/ آب الماضي بمستشفى في الفجيرة، ولكنه قال لعمه قبل أن يودع الحياة: «حلمت بأن والدي يحملني بين بيديه»، فكانت وفاته لأسرته فصلاً جديداً من الألم، ودفن مع والده.
أشقاء الشهيد
أشار مانع القبيسي، «شقيق الشهيد»، إلى أن شقيقه كان يكتب الشعر، واستطاع جمع الكثير من الأشعار في عدة دفاتر، وكان كل من يستمع له يعجب بما خطته أنامله، لكنه لم يسبق له أن نشر أي قصيدة له، لافتاً إلى أنه يفكر في جمع هذه القصائد في ديوان وطباعته للحفاظ عليها من الاندثار.
وأوضح أن شقيقه كان متواضعاً جداً، وكان يرافقه إلى المعارض التي يشارك بها، ويراه يذهب بنفسه ليسلم على الناس والعاملين، ولا يفرق بين أحد، ويعامل الجميع سواسية، علاوة على أن نظرته ما كانت لتخيب في أي شخص ولا في أي أمر، كما كان شديد الارتباط بعائلته، ويطلب من إخوته أن يسكنوا معه في منزله لأنه لا يريد أن يفترق عنهم، إضافة إلى تعلقه بالعمل وتفانيه فيه على حساب وقته الشخصي، إذ كان نادراً ما يأخذ إجازات، ولم تكن إلا في حالات المرض الطارئة، وكان يقول: «الدوام أهم من عيالي ماداموا هم بخير».
أما عمر القبيسي «شقيق الشهيد»، فأشار إلى أن أخيه سيف كان متعلقاً بالطيران منذ صغره، واستطاع باجتهاده أن يحقق ما يتمناه، وكان يهوى ممارسة الرياضة، إلى جانب حبه لكرة القدم ويشجع فريق «البرازيل»، كما كان عطوفاً وحنوناً جداً على إخوته كأنه والدهم، ولم يكن يفرق ما بين أبنائه وبينهم.
وأوضح أن شقيقه سيف «قبل استشهاده بأسبوعين اتصل بي يطلب مني القدوم إلى أبوظبي ليأخذني إلى أحد المطاعم التي كان قد زارها من قبل، ولكن لم يكتب لنا أن يتم ذلك».
فخر بحجم الكون
بدر القبيسي «شقيق الشهيد» قال: «إن استشهاد سيف أهدانا فخراً بحجم الكون وأكبر، ولقد كان ضحوكاً ومرحاً ومحبوباً من الجميع، يسارع لمساعدة المحتاجين وبذل كل ما في وسعه لرفع الضيم والظلم عن الآخرين، وتربى على حب الوطن وتقديم الغالي والنفيس في سبيله.
الفراق صعب لكن ما يعزينا أنه فارقنا شهيداً والشهداء هم الأحياء عند ربهم، ويزفون بمواكب الفخار، وشقيقي سيف لم يحب أن يفارق السماء لأنها تمثل بالنسبة له بيته الثاني».
ويستمر الحلم
يتقاسم كل من شقيقي الشهيد الصغيرين راكان وحمدان حلم أخيهما سيف، ويتمنيان أن يصبحا من نسور الوطن، وأن يتابعا مسيرته، وأن يحلقا في السماء بين السحاب، وأن يتمكنا من تحقيق جزء من الإنجازات التي حققها سيف في وقت قصير من حياته، مؤكدين أن الوطن يستحق التضحية بأغلى ما يملك الإنسان، لأنه بدماء الشهداء تضاء شعلة الأمجاد ويبنى مستقبل الأوطان.