ومع التطور الكبير والنهضة العمرانية الشاملة التي حدثت في الدولة بعد الاتحاد، حرصت القيادة الرشيدة على بناء أحياء سكنية حديثة لجميع المواطنين، كما حرصت على تطوير الأحياء الشعبية وتوفير جميع الخدمات الضرورية فيها، من أجل الحفاظ على الموروث الشعبي والعلاقات الأسرية القوية التي تربط أبناء الحي الواحد، الذي رفض العديد منهم مغادرة «فريجهم»، الذي يعد بالنسبة للعديد منهم عائلته الكبيرة، التي يعيش فيها وسط أناس بسطاء طيبين محبين لبعضهم البعض.
الوالدة فاطمة علي يوسف، من منطقة صفد بدبا الفجيرة، تقول: «الفريج حي شعبي جميل وصغير. والبيوت عشوائية بسيطة، لا يوجد فيها تكلفة باهظة، نعيش وكأننا في بيت واحد مع جيراننا، نتشارك كل شي في الأفراح والأحزان. وأطفالنا يلعبون سوية وكأنهم إخوة. ما زلنا نتبادل المأكولات والحلويات الإماراتية الشعبية مع بعضنا، سواء في شهر رمضان الفضيل، أو الأيام العادية. وكل ليلة نسهر ونتسامر».
وتضيف: «في مثل تلك الأيام باردة الأجواء. نجتمع كل يوم لشرب القهوة وتبادل الحديث في العديد من المواضيع، والتعرف إلى أخبار أهالي المنطقة الحارة، وغيرها من الأحاديث، ونقدم أطيب المأكولات الشعبية التقليدية، المعروفة في الإمارات، مثل الفريد، والهريس، واللقيمات، التي نعدها بشكل جماعي».
وتؤكد أنها تشعر بالسعادة والرضا للعيش في قريتهم الصغيرة، حيث جميع البيوت متقاربة، وعادات وتقاليد الأهالي تتميز بالألفة والمحبة والتعاون، وحب المساعدة، وتقديم الخير للجميع. فالعلاقات بين الجيران يحكمها القرب والعشم، الأمر الذي يرسخ في سكان «الفريج» القيم والأخلاق، والحب للجيران والإخوة، ويعزز التلاحم فيما بينهم.
تسكن مريم سعيد، حياً شعبياً في منطقة شوكة برأس الخيمة، يضم العديد من المنازل القديمة والحديثة، المتقاربة من بعضها البعض. وتفضل العيش فيه على العيش في المدينة رغم التطور الحاصل في المنطقة. تقول: «منطقتنا الشعبية اعتبرها بيئتي منذ نعومة أظفاري، حيث عشت أجمل أيام الطفولة بصحبة إخوتي، وصديقاتي اللاتي كن وما زلن يسكن بالقرب من بيتنا».
الحياة في الأحياء الشعبية نقيّة خاليّة من التكلُف والتعقيد، بحسب سعيد، فأهلها يعيشون تحت مظلة واحدة، أساسها الصدق والعفويّة، ورجالها يحملون روح النخوة والفزعة والشجاعة والكرم، ونساؤها بسيطات يحرصن على التواصل واستدامة المحبة بين جيرانهن؛ لذلك هي تفضل العيش في الأحياء الشعبية التي تتميز بالبساطة وقوة العلاقات الاجتماعية.
وتعيش الوالدة شيخة محمد راشد الزيودي، في منطقة الطيبة منذ 30 عاماً. تقول: «لا يمكني أن أتخلى عن الحي الذي عشت فيه فترة طويلة، وتعودت عليه وعلى الناس الذين يعيشون فيه، حيث يعيش الأهالي على العادات والتقاليد العربية الأصيلة، التي لم تعد موجودة في المدن أو بعض المناطق، نظراً للتطور والتحضر الذي جرى، وعلى الرغم من كثرة المنازل الحديثة التي بُنيت أخيراً في الحي الذي أعيش فيه؛ فإنه مازال يتمتع بقوة الصلات والروابط بين الجيران».
تضيف الزيودي: «في حال غياب أحد من الأهالي عن الحي لمدة يوم أو يومين، فالكل يبادر بالسؤال عنه وزيارة بيته لمعرفة السبب، كما أن أهل الحي يتفقدون العائلة التي يغيب رب الأسرة عنها لسبب معين، والمسارعة في تقديم الرعاية، كما يشاركون بعضهم البعض في أوقات الفرح والمناسبات، وتقديم العون والمساعدة وبعض احتياجات الفرح، وكذلك الوقوف إلى جانب أهل المتوفى ومشاركتهم أحزانهم، وتقديم الطعام لهم ولضيوفهم».
أسماء النقبي، من خورفكان، تقول: «يعتبر الحي الشعبي أو ما يسمى ب«الفريج» قديماً، الوطن والانتماء لمجموعة تجمعها الألفة والمحبة وروح التعاون، فهو المتنفس للعب ولقاء الأصدقاء والأطفال. ويحرص فيه الجميع على صورتهم واكتساب حب الجميع واحترامهم. كما أن للجيران حقوقاً وواجبات من تلبية الدعوات في المناسبات، والمساعدة في كل مجالات الحياة، فيحل الجار محل الأب لأبناء الغائبين، من ناحية التوجيه والتربية، وتوفير بعض المستلزمات الضرورية، إن احتاج الأمر».
وتضيف: «في الأحياء الشعبية الحديثة المنتشرة في مختلف مناطق مدينة خورفكان، فإن الجميع يعلم عن أحوال الأهالي وصحتهم وأمورهم، ويدخل الأطفال جميع منازل الحي في مختلف المناسبات خصوصاً الأعياد، لتناول الحلوى والحصول على العيديات، فجميع الجيران إخوة في التعامل وتقاسم اللقمة والمشاركة اليومية، كما كنا عليه في الماضي. كما أن النساء في الأحياء الشعبية يتشاركن كل المناسبات وحتى الحياة اليومية، فالأطباق تتوزع بينهن، لتذوق كل أسرة طعام الأخرى، وفي المناسبات، الكل يفزع لتقديم التعاون والمشاركة لإنجاح تلك المناسبة، وتحضير الطعام».
وتفضل النقبي العيش في الأحياء الشعبية عن المدن، وتراها أكثر توطيداً للعلاقات الإنسانية بين الجيران، وانتشار الألفة والمحبة بين الجميع، والعيش في بيئة نظيفة والكل يعرف الآخر.
ويقول الوالد سعيد محمد بن سيف الكندي أبو راشد، من شعبية منطقة الفرفار بالفجيرة: «الحيّ الشعبي الذي أعيش فيه يتميّز ببساطة الأهالي وطيبتهم؛ إذ تجمعنا علاقات وطيدة ومتقاربة، وسكّانه يُعتبرون عائلة واحدة كبيرة، فالبيوت والمحلات التجارية متقاربة جداً، وتكاد تكون ملتصقة، كما ينتشر التكافل والتعاضد بين الأهالي، وتجمعهم المحبة والألفة، ولاتأخذ الفوارق الطبيعية بينهم مكاناً، ويمارسون العديد من الأعمال بشكل جماعي، كحضور المباريات أو تحضير الأكلات الشعبية في المواسم والأعياد، وفي الأفراح تجدهم يداً واحدة تصفق وتزغرد، وفي الأحزان والمآتم تجد دمعتهم موحدة وحزنهم واحد».
ويضيف الكندي: «يتميز الأهالي في الشعبية بالبساطة والتعامل الطيب، غير متكلّفين في أسلوب حياتهم وعملهم ومظهرهم. وتظهر ملامح السعادة على وجوه الكثيرين، وابتسامة القناعة والرضا تعلو شفاه القاطنين في هذه الأحياء. كما يفرز العيش في الأحياء الشعبية المحافظة على العلاقات التقليدية بين الأهالي، كالتقارب وصلة الرحم، والألفة والتواصل مع الآخر، حتى وإن كان من غير الأقارب، أو من قبيلة أخرى. فكلّ الأفراد في الشعبية هم بمثابة جسم الإنسان، كل أعضائه في تواصل وتناغم مكمّلين بعضهم البعض».
أما مريم بنت علي بن هلال الكعبي، من الفجيرة فتقول: «على الرغم من أن سكني في بعض الأيام في المدن؛ فإن أفضل الأيام في حياتي هي تلك التي عشتها في الأحياء. منازل الأهالي متقاربة من بعضها، والكل يعرف الآخر ويحب جاره، ويخاف عليه ويكون عوناً له، فالنساء في فترات الصبح والعصر وأحياناً المساء، يتجمعن كل يوم في بيت أحد الأهالي. وكل واحدة منا تحضر قهوتها، وما تعده في الصباح في منزلها من تمور وهريس وخبيصة وغيرها، ويتجمعون في بيت أكبر نساء الحي سناً وبعد تناول القهوة الصباحية تتفرغ كل واحدة لأعمال المنزل».
وتضيف: «العيش في تلك الأحياء بسيط، وليس فيه إزعاج أو تلوث، ويمتاز بالعلاقات الاجتماعية، ودائماً البسمة والضحكة على وجوه الأهالي. ننام وإحنا مرتاحين البال، والكل مطمئن في بيته».
بالنسبة لأميرة المنصوري، فالأحياء الشعبية هي عائلة كبيرة، وعلى الرغم من أنها فلل حديثة، فإن البيوت البسيطة في بنائها عظيمة بأخلاق سكانها. تقول: «الأحياء الشعبية تعتبر الأم صاحبة القلب الكبير لجميع أطفال الحارة، والجدة الحنون للجميع. وإن غاب أب أحد المنازل، تجد رجال الحارة كلهم أصبحوا آباءً يعطون ويهتمون بأبناء الغائب حتى عودته. يتشارك الجميع التربية واللقمة والفرحة والحزن قبلهم، فإن أصيب أحد منهم بمصاب، تجد كل من يسكن الحي يتكاتف وكأن المصيبة مصيبتهم، وإن تأخر أحد الأولاد عن الصلاة تجد الجار بكل حنان ينصحه وكأنه أحد أبنائه».
وتضيف: «السكن في الأحياء الشعبية مثل العيش وسط الأسرة الكبيرة. استأنس بدخول جاراتنا في كل وقت وبلا موعد وبلا تكلف. لا يوجد هناك أجمل من بساطة الحياة، فالبساطة هي أساس الروح الجميلة المعطاءة لكل من حولها. كيف لا أحب أن أعيش في بيت وكلي راحة ومطمئنة بأني حتى لو نسيت أن أغلق باب بيتي لن يصيبني مكروه. وإن أحسست بضيق أو ملل ما عليّ إلا أنا أعبر الشارع واتجه إلى بيوت صديقاتي وأتسامر معهم. الحياة في الشعبيات علمتنا أن الحب للجميع، وأن ما لديّ ملك للجميع، وإن حزنت وجدت كل من حولي يمسح دمعي، وإن فرحت كل من حولي يشاركني فرحتي».
أما الوالدة مريم راشد الجروان، من خورفكان تقول: «الأحياء الشعبية تذكرني ب«الفريج» في الماضي، وعلى الرغم من التطور والتحضر الذي جرى؛ فإننا في الشعبية مازلنا متعاونين ومتحابين في كل مجالات الحياة».
وتضيف: «من أهم الطقوس التي نمارسها هناك هي «فوالة الضحى»، وبعد أن تفرغ كل أم من الاهتمام بأطفالها، وإرسالهم إلى مدارسهم، وتنظيف بيتها، تذهب حاملة قهوتها إلى بيت جارتها للسمر. وفي رمضان تجد الأطباق تتنقل من بيت لبيت، لتصبح سفرات الإفطار عامرة بأكلات مختلفة».
علاقة وجدانية
ياس خضير البياتي، أستاذ علم الاجتماع الإعلامي بجامعة عجمان، يقول: «يعرف الحي من وجهة نظر سوسيولوجية بأنه مجموعة الأماكن السكنية التي يمنحها سكانه خصائص الارتباط الاجتماعي، والمصلحة المشتركة، ويؤثر بعضهم على بعض، وهو المكان الذي يشعر فيه هؤلاء السكان بالانتماء إلى المجتمع الذي يعيشون فيه. وهذا يعني دراسة الظواهر المجتمعية دراسة علمية من جهة أو فهم الفعل الإنساني وتأويله داخل بنية مجتمعية ما، برصد مختلف الدلالات والمعاني والمقاصد التي يعبر عنها هذا الفعل أثناء عملية التفاعل والتواصل الاجتماعي من جهة أخرى».
ويضيف البياتي: «العلاقة الوجدانية مع الماضي ترتبط بمقدار البعد عنه فكلّما تقدم بنا السن زاد شوقنا للماضي لأن فيه أغلى مراحل العمر وهي مرحلة الشباب والقوّة. وتقول بعض دراسات علم النفس الاجتماعي إن مّا يميّز الإنسان الشرقي أنّه أكثر من غيره تعلّقاً بالماضي ولهذا تجده في شعره ونثره ورواياته يخصّص الجزء الأكثر شجناً في توصيف الماضي وشجونه في حالة من التوق لذكريات ولّت ضمن ما يدخل علمياً تحت مفهوم (النوستالجيا). وهذا ما يجعل حياة الأحياء الشعبية أكثر رسوخًا في الذاكرة لمن عاشها ومن لا يزال يعيشها بل إن بعضهم يرفض مغادرة هذه الأحياء رغم قدرته على الانتقال لأحياء أكثر رفاهية وتطورًا ولكنه بمجرد أن يفكر في تلك الخطوة يشعر بأنه وبهذه المغادرة سيغادر جزءاً غالياً من حياته التي استمتع بها في أجواء من البساطة والتقارب وأشياء لن يجدها في أحياء قد تبدو جميلة حديثة، ولكنها حتماً تفتقد لتلك الأجواء التي تحمل ذكريات العمر في أزقة الحي الشعبي وأهله البسطاء وتلقائيتهم في الحديث».