دأت دراسات الآثار في الإمارات بالتطور في مطلع الستينيات وتحديدا في أعقاب أول بعثة بحثية دنماركية لإمارة البحرين، ثم استفادت خلال الثمانينيات من عمليات انتقال البحوث من إيران ومن بين الرافدين نحو منطقة تعتبر الأكثر هدوءا من الناحية السياسية.
في أصل كل الدراسات عن رأس شبه الجزيرة العربية كانت المواقع الثقافية كلها مرتبطة بالتسلسل الزمني لإيران ولما بين الرافدين. والآن وبفضل المستوطنات التي اكتشفت عند تسلسل متعلق بطبقات الأرض وأيضا باستخدام الكربون، أصبح بالإمكان تحديد تسلسل زمني للإقليم بصورة أفضل.
وتكشف هذه الدراسة “قبور ما قبل التاريخ في البثنة” للعالم الأثري بيير كوربود وآخرون وترجمة بدر الدين محمود نتائج أعمال التنقيب الأثري التي قام بها كوربود بمعاونة باحثين متخصصين سعيا لردم الفجوة المعرفية حول الاستيطان البشري في الجانب الشرقي لدولة الإمارات خلال الألفية الأولى لما قبل تاريخنا المعاصر. وكانت منطقة البثنة في إمارة الفجيرة هي موضع التنقيب والدراسة.
يقول كوربود “أطلقنا على المرحلة الأولى من أعمالنا بالفجيرة اسم “مسح أثري لإمارة الفجيرة” لنفرق بينها وبين أعمال الفرق الأخرى التي كانت موجودة على الأرض. دون الحديث عن تاريخ البحوث الأثرية في منطقة شبه الجزيرة العربية.
ومن المهم الإشارة إلى أن الفجيرة ظلت حتى العام 1987 الإمارة الأقل حظا في نصيبها من البحوث والدراسات الأثرية. وقد كانت الإشارة الوحيدة والمهمة التي وردت عنها هي تلك التي نشرتها السيدة بياتريس دو كاري في أعقاب مسح أثري تم القيام به في عام 1968.
إن عدم الإلمام النسبي بآثار الفجيرة كان المحفز الأكبر لنا للقيام ببحوث شاملة حول المنطقة مع التركيز كأولوية على المناطق المحددة بإنشاءات جديدة. بوساطة هذه الأعمال تم اكتشاف مدافن البثنة خلال البحث في المناطق المحيطة بها”.
ويؤكد أن الميزة الأساسية للبحوث الأثرية في شبه الجزيرة العربية هي حداثتها مقارنة بالبحوث التي أجريت في “ما بين الرافدين ووادي اندوس بإيران وغيرها”.
وتقع البثنة في وادي حام وتحديدا في المنطقة التي يتوسع فيها الوادي على سهل صغير تحفه الجبال والمرتفعات، ووادي حام هو أحد الأودية النادرة التي تعبر سلسلة جبال عمان التي تتيح المرور بين الجانبين الشرقي والغربي لشبه الجزيرة العربية ـ بين الخليج العربي وخليج جبال عمان ـ ينحدر هذا الوادي بيشكل منتظم من مسافي وحتى إمارة الفجيرة الحالية.
وتشتهر منطقة البثنة بقلعتها المبنية على كتلة صخرية تسيطر على مجرى الوادي في انحداره الغربي. وتمتد قرية البثنة الحالية قليلا شمال القرية القديمة وعلى الجهة الغربية من مجرى الوادي. وتنحصر أشجار النخيل والمناطق الزراعية المحيطة بها في الجانب الشرقي للوادي، وتتكون الجبال المحيطة بها من صخور متحولة مع صخور الأفيوليت في شكل قطع مكسر، ولا يتعدى ارتفاع القمم المحيطة بالبثنة 900 متر.
وتمتد قرية البثنة التي تتناول الدراسة قبورها، بين المنحنيات بمستوى 170 إلى 190 مترا، ويتكون الحشو الرسوبي لقاع الوادي مما يحمله ويجرفه وادي حام وبعض الأودية الأخرى التي تصب في سهل البثنة. حيث يوجد بها الحصى الرميلة الدقيقة والحصى المستديرة وبعض الصخور الكبيرة ذات الزوايا الدائرية.
ويضيف كوربود “لقد تم في أثناء المسوحات الأثرية لمنطقة البثنة اكتشاف العديد من المواقع الأثرية لفترة ما قبل تدوين التاريخ، ويقع العدد الأكبر من هذه المواقع في الجزء الجنوبي سهل البثنة حيث وفرة المياه، كما تشهد بذلك أشجار النخيل اليوم. وتم تجميع العديد من الخزفيات الخشنة التي تنتمي للعصر الحديدي. وبالمقابل كان عدد المستوطنات البشرية التي تنتمي لتلك الفترة قليلة جدا.
لقد استطاع البثنة عبر الأزمنة أن يكون مركز جذب للمجموعات البشرية العاملة بالزراعة. أضف إلى ذلك أن موقعه عند منتصف ارتفاع الوادي جعل منه مركزا تجاريا بين طرفي شبه الجزيرة العربية”.
ويوضح “تمثل مجموعة القبور المقدمة هنا جزءا من المدافن الواقعة على تل صغير جنوب غرب المجرى الرئيسي للوادي جنوب قرية البثنة الحالية. وتم اكتشاف هذه المقابر في العام 1987 بفضل العثور على بقايا أثرية كانت على سطح الأرض. ومن ثم قررنا مباشرة بدء التنقيب استباقا للتهديم المحتمل بسبب توسعات القرية الحديثة.
وبدأت الأعمال بحملتين بين عامي 1987 و1988. كان مجموع القبور التي تم تحديدها للتنقيب هو أربعة قبور: اثنان منها قبور فردية (استخدمت لدفن فرد) تقع في أعلى التل، وقبر ميغاليثي طويل على ممر منحدر بالقرب من أعلى التل، وقبر صغير لطفل يشبه بناءه بناء القبور الفردية القريبة من القبر الطويل”.
ويشير كوربود إلى أن طريقة بناء القبور سمحت له ولمعاونيه وأبعادها بأن نعرفها على أنها قبور فردية تحت أرضية، يقع القبران الأولان على أعلى قمة التل بينما يقع المخصص للطفل بالقرب من مدخل القبير الطويل، تماثل هندسة هذه القبيور هندسة مدافن سمد بسلطنة عمان، ويرجع تاريخ هذه القبور الفردية بسمد إلى الألفية الثانية قبل الميلاد ـ فترة وادي سوق ـ وبين نهاية الألفية الأولى وبداية الألفية الثانية من عصرنا ـ فترة سمد المعاصرة تقريبا إلى أواخر ما قبل الإسلام بالإمارات ـ في ظل غياب الدلائل الأثرية باستثناء هذه المماثلة لم يكن من الممكن تحديد تاريخها بصورة أكثر دقة.
ويلفت كوربود إلى أنه منذ العام 1981 تم تقسيم المدافن المعروفة في الإقليم العماني إلى قسمين كبير، الأول يضم المقايبر الجماعية الكبيرة المعروفة فقط في دولة الإمارات خلال العصر البرونزي، والقسم الثاني يضم المقابر الفردية التي ظهرت في الألفية الرابعة قبل الميلاد في الامارات وفي عمان على حد سواء.
ومجموعة المقابر الفردية بدورها تنقسم إلى مجموعتين هندسيتين: من ناحية القبور الدائرية من نوع “أم النار” والتي كانت من سمات الألفية الرابعة قبل الميلاد، ومن ناحية أخرى القبور التي على شكل ممر من نوع “شمل ـ رأس الخيمة” الذي يبدو خاصا بالألفية الثانية قبل الميلاد، والقبور الطويلة المدفونة التي ظهرت في نهاية الألفية الثالثة قبل الميلاد.
ومع ذلك فقد كان هنالك العديد من أنواع القبور الوسيطة ـ القبور المزدوجة أو الملحق بها غرفة ـ موجودة خلال الألفية الثانية كقبور من نوع “غليلة” أو “جرن بنت سعود” أو “الداية ـ رأس الخيمة”. وبينما كانت القبور من نوع “شمل” تنتشر خلال الألفية الثانية كانت الأنواع الأخرى تختفي من 1500 ق. م.”.
ويشكل القبر الطويل المشيد في شكل ممر الأثر الأبرز في مدافن ما قبل التاريخ بالبثنة طبقا لكوربود، ويقول “هنالك العديد من المعالم الأثرية في الامارات قريبة منه خاصة فيما يتعلق باتجاهها وطريقة تشييدها. لكن من المؤكد أن قبل البثنة هذا رغم ابتكاريته استطاع أن يسجل نفسه ضمن التحول الهندسي العالمي وأن يشار إليه بالبنان في كل منطقة شبه الجزيرة العربية، حدث هذا التحول في نهاية فترة وادي سوق وحتى بداية العصر الحديدي حيث شهد التخلي التدريجي عن قبور السطح لصالح القبور المدفون”.
يذكر أن الكتاب استخدم أسلوب التوثيق أكثر من أسلوب الشرح والتفسير، حيث يتماشى ذلك من ناحية مع تواضع كمية الموجودات التي تم اكتشافها ومن ناحية أخرى مع أصالة وابتكار القبر الطويل المشيد في شكل ممر.
جاء الكتاب الصادر عن هيئة الفجيرة للثقافة والإعلام في عشرة فصول تناولت التسلسل الزمني بالإقليم وجغرافيا الأرض وهندستها في منطقة البثنة وظروف الاكتشافات، والقبور الفردية توصيفها وموجوداتها الأثرية ومقارنتها بأخرى، والقبر الطويل عمارته وتوصيفاته الداخلية وموجوداته، وهناك فصل خاص بالخزفيات في العصر الحديدي وما قبل الإسلام، وآخر عن المواد المصنعة من الحجر الرخو، وآخر عن المعادن وما تم اكتشافه من أدوات، وآخر عن الحلي وأدوات الزينة.
ويختتم الكتاب بفهرس الموجودات واللوحات. وقد حفل الكتاب بالعديد من الخرائط والصور لمواقع العمل والمقابر.
محمد الحمامصي