كثيرة هي المواقف العالقة في ذهن الوالد حسين غلوم الملا الحمادي، من أيام الدراسة في بيروت ومصر في السبعينات، حتى الوظيفة في المجال الإحصائي في الفجيرة ومنطقة الساحل الشرقي، التي تواصلت لأكثر من ربع قرن، في سنوات متخمة بالأرقام والبيانات والمواقف الطريفة والصعوبات، لاسيما في اجتياز عقبة الوصول إلى المناطق الجبلية البعيدة والخروج منها بسلام، تحسباً لقلة وعي وإدراك أهالي تلك المناطق، لفحوى الإحصاء وأهميته، وما رافق ذلك من خطر وصعوبة التنقل عبر مروحيات الشرطة والقوات المسلحة، والوقوع أحياناً في مرمى حجارة الأطفال والنسوة.
الوالد حسين الملا فتّش بين ملفاته القديمة، ونبش ذاكرته الجميلة، فسرد تفاصيل كثيرة عن رحلة 27 عاماً من العمل الدؤوب في مناطق الفجيرة والساحل الشرقي، بسهولها وجبالها، وحتى مياهها الإقليمية، للخروج بأصدق البيانات وأفصحها، خدمة لوطنه الكبير الإمارات، بالنظر إلى أهمية الإحصاء وجدواه في فترة نهوض الدولة وبناء مؤسساتها، وما رافق تلك الأيام من مشقة وإصرار على بلوغ الهدف مهما بلغت التكاليف حداً.
الدراسة والوظيفة
الملا استهل حديثه بأيام الدراسة وبداية الوظيفة قائلاً: تخرجت من جامعة بيروت العربية فرع الإسكندرية في مصر عام 1978، في تخصص التاريخ، وقبل التخرج بعامين، تلقيت خبراً ساراً من معالي سعيد غباش وزير التخطيط آنذاك، بقرار تعييني مديراً لمكتب وزارة التخطيط في الفجيرة ومنطقة الساحل الشرقي.
وأضاف إنه بدأ العمل مع 4 موظفين، وعدد لا بأس به من المتعاونين في العمل الإحصائي من المدرسين في تلك المناطق غالباً، وشمل مجال عمله تقديم بيانات إحصائية ومتجددة باستمرار؛ من الفجيرة وما يتبعها من مناطق، إلى كلباء ودبا الحصن وسواها، وحتى المجال البحري أو المياه الإقليمية، بما يشمل السفن والبواخر وناقلات النفط والعاملين فيها، في رحلة بحرية لا تقل صعوبة وتعباً عما عاناه الفريق في طريق صعود الجبال ومخاطرها.
بيانات حيوية
وأوضح حسين الملا أن الإحصاء أساس كل شيء، ولولا الإحصائيات الصحيحة لما استطاعت المجتمعات البناء، ولما حققت النهضة وبلغت التطور، مشيراً إلى أن البيانات التي كان فريق العمل يجمعها في مجملها حيوية وتتعلق بالتعداد السكاني، والتجارة الخارجية، والصادرات والواردات، وحتى الحيوانات الأليفة «الإبل والبقر والغنم»، ودامت هذه الجهود منذ عام 1978 حتى 2005، لتتراجع حدة الإحصاء بعدها، وتقل البيانات المرصودة ميدانياً.
كما شملت البيانات الإحصائية التي كان يتولاها مكتب وزارة التخطيط في الفجيرة والساحل الشرقي، حقائق أخرى عن الزواج والطلاق والمواليد والوفيات، والحالات المرضية «الإعاقات» وتفاصيلها، والعمالة الوافدة، ونوع السكن «بيت عربي، بيت شعبي، عشة، شقة، فيلا»، وسواها من التفاصيل التي تهم مختلف القطاعات والوزارات والهيئات الاتحادية والمحلية.
وقال إن التطور التكنولوجي، والإحصاءات المتوفرة عبر نظام سجلات الهوية الوطنية، أو إدارات الإقامة وشؤون الأجانب، لا تغني إطلاقاً عن الإحصاء الميداني، الذي من الواجب أن يستمر في الدولة مهما كانت الظروف، ومهما بلغت التكنولوجيا وأدواتها، لأن في الإحصائيات الميدانية حقائق لا تقوى التقنيات على رصدها وتصويرها وحتى وصفها، لذلك يظل دور الإحصاء محورياً في ديمومة التنمية والتطور والازدهار.
مخافر الشرطة
وأوضح أن التعداد السكاني كان يتم كل 5 سنوات حسب قرار وزاري، ويتصل بالمواطنين والمقيمين، وحتى المتواجدين على متن السفن في المياه الإقليمية للدولة ليلة إجراء الإحصاء، وكل ذلك يتم بالتنسيق والاشتراك مع قيادات الشرطة والمخافر في مناطق التعداد، وتجري قبل ذلك اجتماعات تحضيرية وتدريبية للقائمين على التعداد والمراقبين والمفتشين والعدادين، وكانت المناطق مقسمة إلى مجموعة من التقسيمات الإدارية، بحيث يمكن إحصاء كل شيء فيها بنظام وتنسيق وإتقان، وعدد العاملين في التعداد يصل إلى نحو 600 شخص، معظمهم من المتعاونين لفترة محددة، من المدرسين العاملين في مناطق التعداد غالباً.
وعرّج الوالد حسين الملا على ظروف عمل فرق الإحصاء قديماً، التي كانت تواجه صعوبات في مناطق جبلية وعرة، أبرزها «وادي سدر والطويين» بالفجيرة، و«النحوة وشيص» بالشارقة، مشيراً إلى أنه في تلك الفترة «الثمانينات» لم تكن هناك طرق معبدة وسالكة تصل إلى المناطق البعيدة، وكان العاملون في التعداد يصلون إليها بآليات عسكرية تابعة للقوات المسلحة، أما المراقبون والمفتشون فيتنقلون بين المناطق الجبلية تلك، عبر المروحيات التي تتبع الشرطة أو القوات المسلحة، وتلك المهمات لم تخلُ ساعة من الخطر أو الخوف.
رشق بالحجارة
وذكر موقفاً تعرض فيه دليل فريق التعداد المواطن سالم محمد علي بن رماس، للإصابة بالحجارة التي ألقاها الأطفال والنساء في منطقة وادي سدر، بعيد وصول فريق الإحصاء عبر طائرة مروحية، ورفض السكان التجاوب مع العدادين، وفي تلك الأيام كان معظم رجال تلك المناطق يعملون في الجيش، ويغيبون عن البيوت لفترات متقطعة، مشيراً إلى صعوبات كثيرة واجهت فرق الإحصاء، قبل أن يقتنع السكان بضرورة استقبال العدادين والتجاوب مع طلباتهم.
ولفت إلى كيفية التنقل بالطائرة فوق الجبال والصخور والوعورة المربكة، وهو ما منع كثيراً من الموظفين في المكتب من صعود الطائرة خوفاً على حياتهم، موضحاً أنه كان يتنقل في بعض المرات وحيداً لمتابعة آليات الإحصاء، وإمداد العاملين في المناطق المختلفة بما يلزم، وفي تلك الأيام لم يكن هناك مطار في الفجيرة، وكانت الطائرة تتجه إلى رأس الخيمة للتزود بالوقود، وعلى متنها اثنان أو ثلاثة طيارين ومجندان، إضافة إلى شخص أو اثنين أو ثلاثة من القائمين على الجهد الإحصائي في كثير من المرات.
واختتم الوالد حسين الملا أن الإحصاء بالنسبة إلى الدولة، كان ولا زال، بمثابة الهيكل العظمي للإنسان، لذلك ظل حريصاً على أن تكون بيانات الإحصاء دقيقة وشاملة، ولم يتهاون مع أحد من العاملين معه إطلاقاً، وحتى السفن في المياه الإقليمية، كانت تُحصى بطواقمها في يوم واحد، مع التركيز على أمانة العدادين في دخول بيوت الناس، وجمع البيانات اللازمة.
أرشيف خاص
يحتفظ حسين الملا بسجل وفير من المراسلات والأرشيف الإحصائي، والصور التوثيقية النادرة لرحلاته المتكررة إلى مناطق الدولة الساحلية والجبلية، والتي امتدت أكثر من ربع قرن، وتركزت في التعداد السكاني والإحصاء الذي طال كافة نواحي الحياة، إلى جانب امتلاكه عدداً لا بأس به من العملات المعدنية النقدية، التي يبلغ عمر بعضها 155 سنة وأكثر. ويحرص الملا على عرض كثير من الصور التاريخية التي بحوزته، بشكل متواصل عبر حسابه على «انستغرام»: (Hussain.almulla).
عنان كتابة