تعتمد «الضغوة» على سواعد الرجال في جر الشباك وإخراجها من البحر بمعية الأمواج، ويبلغ متوسط عدد المشاركين في عملية الصيد هذه نحو 30 رجلاً، يتعاونون معاً للظفر بأسماك مختلفة الأحجام، من خلال رمي طرف الشباك على الشاطئ وسحب الطرف الآخر إلى عرض البحر والانعطاف بها لتشكيل حلقة دائرية ضخمة أطرافها ممدودة إلى الساحل، ثم يسحب الرجال الحبال من الأطراف، فيظل السمك حبيس الشباك حتى يلتقطه الصيادون.
الأمس واليوم
بين الأمس واليوم؛ اختلفت عملية «الضغوة» نسبياً، ولعل أبرز أوجه اختلافها يكمن في استخدام السيارات عوضاً عن البشر في عملية جر الشباك وإخراجها من البحر. الوالد أحمد علي علوان من مدينة خورفكان، الذي امتدت علاقته بالبحر إلى نحو 60 عاماً، لا يزال يكرس ما تبقى من عمره خدمة لمهنة الصيد التي نشأ عليها، مبدياً أسفه على قلة الشباب المشاركين في «الضغوة» بالمقارنة مع ما كان عليه الحال سابقاً، فاليوم ونتيجة طغيان مشاغل الحياة، فقد ابتعد كثير من الشباب عن أجواء البحر عموماً، وتخلوا عن طرق الصيد التقليدية على وجه الخصوص.
تفاصيل أكثر ومعلومات أدق، ذكرها علوان عن الصيد بـ«الضغوة»، أبرزها أنها عملية مستمرة على مدار العام، لا يمكن حكرها في موسم معين، ويطلق على الشبك المستخدم خلال عملية الصيد «الليخ»، ويمتد طوله إلى نحو 600 باع، وعرضه 12 باعاً، والباع يساوي نحو مترين، وهذا الباع يعتبر وحدة القياس الأكثر استخداماً بين أهالي البحر منذ قديم الزمان وفي معظم عمليات الصيد.
أنواع «الليخ»
وينقسم «الليخ» إلى أنواع عدة، وفي هذا الصدد ذكر الابن علي أحمد علوان بعض أنواع «الليخ»، منها: «قبلان البرية» و«قبلان العومة والقرفة» و«قبلان بايت». ويتميز «ليخ قبلان البرية» بأن فتحات شباكه تبدو أصغر حجماً عن سواه، وتنقسم «البرية» أيضاً إلى أنواع عدة، منها عربي أو «زاعم» الذي يتزامن موعده مع موسم التمر.
أما «العومة» فهي أسماك أصنافها مختلفة منها: «السديرية» و«زينابة» و«أم الصدير» و«أم الصل»، والأخيرة تعتبر الأفضل بين الأنواع السابقة بصفتها دسمة. وتطرق الابن في حديثه إلى بعض القصائد أو «الشلات» القديمة المتداولة بين أهل البحر عند الصيد بواسطة «الضغوة»، مثل: «وينك يا عربي النبات.. وين قيل وين بات»، وهذه الشلة يرددها الصيادون عند موسم صيد أحد أنواع سمك السردين «البرية» الذي يتزامن مع موعد طلع النبات في أشجار النخيل.
مكونات «الليخ»
وعن مكونات «الليخ»، قال علوان إنه يتكون من فلين يساعد الشباك على أن تطفو على سطح الماء، ويطلق عليه «الكرب» نسبة إلى «كرب» النخلة، وهو الجزء المتين من جذع النخلة، وقد كان يستخدم على نطاق واسع في الماضي، إضافة إلى «المسو» وهو الوزن المثبت أسفل الشبك والذي يكون حجراً في الغالب، ويطلق على الحبل المستخدم «البرامة». وعندما يتمزق «الليخ» أو يحتاج إلى إعادة غزل، يطلق على العملية «روابة»، ويمكن التعرف على الشخص إذا كان ماهراً وذا خبرة في الصيد عن طريق غزله للشبك، فإن كان صياداً ماهراً يمكنه حتماً أن «يروب»، بمعنى أن يصلح الشبك.
أهل البحر اعتادوا التعامل مع شباك «الضغوة» بقوة وصبر
أنواع أخرى كثيرة من الأسماك، يمكن اصطيادها بواسطة «الضغوة» حسب ما أوضح المواطن خالد الشاعر، مثل: «القباب» و«الكنعد» و«القرفة» وغيرها من الأسماك، ولا يمكن قبول قناعة بأن عدد الأسماك في «الضغاوي» الآن تبدو أقل من السابق، لأن صيد السمك هو بالأساس رزق من الخالق، وعلى سبيل المثال، فقد ظفر الصيادون هناك في أحد الأيام بـأكثر من 35 «تريب» من الأسماك، و«التريب» يعني كمية من الأسماك تملأ صندوق السيارة الخلفي، إلا أنه قد تقل كمية الصيد في بعض الأحيان إلى «تريب» أو «تريبين» وفقاً لما يخفيه القدر للباحثين عن الرزق في البحر.
أصحاب «الحلال»
وتُقسّم «الضغوة» الآن في معظم الأماكن، على شكل جداول محددة لصيادي السمك أو أصحاب «الحلال»، كما أكد خالد الشاعر، وفي مدينة خورفكان ثمة مناطق معروفة في صيد السمك عن طريق «الضغوة»، أشهرها: «مديفي» و«اللؤلؤية» و«مكسر» و«قلقلي» و«الغالة»، ويحرص صيادو الأسماك على تنظيم «الضغوة» حسب الأيام والمناطق المسموح لهم بالصيد فيها، شرط أن يكون الصيد نهاراً منذ ساعات الصباح الباكر وحتى آخر المساء، مما جعل العملية أكثر تنظيماً بين الصيادين.
بعض الشباب آثر البقاء في حدود الماضي الجميل فورثوا حرف ومهن الآباء والأجداد، من بينهم الشاب المواطن سعيد النقبي الذي كان حريصاً على المشاركة منذ صغره في عمليات الصيد التقليدية. ويعود سعيد بذاكرته الطفولية حينما كان يقف إلى جانب أهالي المنطقة لتشكيل فريقين رئيسين، يصطف الأول في الجهة اليمنى من الشاطئ، بينما يقف الفريق الآخر على الجانب الأيسر، وعندما يستشعر أحد الصيادين بأن الوقت قد حان لشد الشبكة، يبدأ الجميع بسحبها من الجهتين، وفي هذه الأثناء لا تجد الأسماك مخرجاً للهروب، إذ يتم تطويقها من جميع الجهات، وتشتد سواعد الرجال عندما تصل الشبكة قرب الشاطئ.
مشهد تقليدي
هذا المشهد التقليدي كما يرى النقبي، يبدو أنه بات في سجلات الذاكرة وحسب، نتيجة التطور واللجوء إلى سيارات الدفع الرباعي لشد الحبال، ورغم ذلك لا يزال سعيد يتذكر مشهد المتعة عندما كانت الشباك تصل إلى رمال الشاطئ، إذ يتفاعل الجميع مع الحدث لمجرد مشاهدة الأسماك، وبعد أن تصل الأسماك إلى بر الأمان، يتقاسم المشاركون ما ظفرت به أيديهم، ثم تُحمل الشباك ويعاد ترتيبها ووضعها في القارب كي تتجدد العملية في اليوم الثاني أو الذي يليه في «ضغوة» أخرى.
أمام هذا المشهد الجميل على ضفاف البحر، تتجلى حقيقة أن «الضغوة» تحمل في طياتها الكثير من الدروس الاجتماعية، والسمات التي يرجوها الجميع في أبنائهم، مثل التعاون والتكاتف، وهي ملامح لطالما تميز بها أهالي المناطق الساحلية في الإمارات من كلباء إلى الفجيرة وخورفكان وبقية إمارات الدولة، وتعكس مدى تعاضد الجميع وتضافر جهودهم وتعاونهم المثمر في تقاسم لقمة العيش، فضلاً عن تقوية الأواصر بين السكان، وتمتين نسيجهم الاجتماعي على نحو مثالي.
مؤشرات البداية
يستعين الصيادون بجملة من المؤشرات والدلائل، التي يتنبؤون من خلالها بإمكانية الصيد عبر «الضغوة»، وربما تأتي إشارة البدء من أحدهم حينما يلحظ الطيور تحوم بكثرة فوق سطح الماء القريب من الشاطئ وهو ما يعني وفرة الأسماك في تلك المنطقة. وهناك إشارة أخرى تبدأ عند مشاهدة أسماك السردين «البرية» بالعين المجردة تتحرك مع بعضها البعض مشكلة مجموعات كبيرة قرب الشاطئ، واستناداً إلى خبرة الصيادين، يمكن تحديد موعد متفق عليه للبدء بـ «الضغوة»، التي تكون غالباً بعد صلاة الفجر، ويصل الخبر إلى جموع المشاركين في هذه العملية وموعدها المحدد، بعد صلاة الفجر غالباً، أو عن طريق التعميم على السكان، وهو ما يبقي «الضغوة» تقليداً اجتماعياً واقتصادياً جميلاً لدى الجميع.
المطاعم الشعبية
راجت الوجبات التقليدية في الكثير من المطاعم الشعبية، مؤخراً. وأضحت محل اهتمام شريحة عريضة من المستهلكين وأفراد المجتمع، ومن ضمنها «السحناه» التي تتميز بسعرها البسيط بالمقارنة مع أسعار الوجبات الشعبية الأخرى. ويمكن تناول هذه الوجبة مع الأرز الأبيض والسمن العربي والليمون، ويفضل البعض تناولها مع الخبز، كما يمكن تناولها جافة أو بإضافة الماء أو الليمون والقليل من الملح إليها. وكذلك «المالح» الذي يحظى بمكانة كبيرة لدى فئات المجتمع المختلفة منذ القدم، على اعتبار أنه يمكن تخزينه إلى فترات طويلة على غرار «السحناه» أو «الجاشع».
عزوف الشباب يضع حرف الأجداد في يد العمالة الآسيوية
تفتقد بعض طرق وأساليب صيد السمك التقليدية، المشاركة المأمولة من جيل الشباب، إذ إن واقع الصيد اليوم وبشهادة أحد الشباب المواطنين عبدالرحمن كابوري، يشكو عزوف فئة الشباب نظراً لارتفاع مستوى المعيشة وتنوع وسائل الدخل، ناهيك عن ارتباط كثير منهم بأعمال خاصة خارج نطاق البحر الذي لطالما ظل محطة التقاء الجميع.
هذا الواقع دفع بعض كبار السن «الشواب»، إلى الاستعانة ببدائل لا مفر منها، مثل إشراك الفئات المساعدة من العمال الآسيويين، إلى جانب اختصار طريق الصيد عبر الاستعانة بسيارات الدفع الرباعي لجر الشباك إلى بر الأمان، وهو ما قلص حجم وأعداد المشاركين من جمع الرجال والشباب كما كان في الماضي، واختزل المشهد في أفراد لا يعدون على أصابع اليد الواحدة.
«الضغوة» في السابق كانت تحتاج إلى مجهود أكبر، واليوم كما يلاحظ كابوري، فإن تطورات المعيشة وتبدل الأيدي العاملة وتوفر البدائل، فإن هذه الأمور قد اختصرت الطريق، وأصبحت السيارات ذات الدفع الرباعي اليوم؛ أداة مهمة في عملية «الضغوة»، كونها توفر طاقة أكثر من 30 رجلاً، إذ يمكن استخدام سيارتين في «الضغوة» الواحدة أو أربع سيارات حسب الحاجة. وأكثر السيارات تداولاً في «الضغوة» الآن هي سيارات «كلوزر» القديمة، فقد عززت «الضغوة» من أهمية السيارة، مما رفع سعرها في السوق رغم قدمها.
ونظراً لتفرغه الكامل للبحر، ذكر كابوري أنه اكتسب مهارات عدة في صيد السمك، بفعل مرافقة الكبار منذ صغره وإلى اليوم، لافتاً إلى أن الفريق المشارك في صيد «الضغوة» يطلق عليه «الجزوة»، وينقسم المشاركون إلى فريقين عند رمي الشباك في البحر قبل بدء «الضغوة»، ويحمل السمك بواسطة شباك أخرى بعد الانتهاء من عملية الصيد، يطلق عليها «شغاه» أو «قطين». والجدير ذكره أن صاحب الحلال أو «النوخذة» يتقاسم الصيد مع العمال المشاركين، ويبيع الجزء المتبقي ويعطي منه الجيران والأقارب، ويستخدم سمك السردين «البرية» في عملية الترويح إن أراد، لإعداد «السحناة» أو «الجاشع».
«السحناه» أو «الجاشع».. وجبة البحر الأولى
امتاز الأجداد في الماضي في إعداد وجبات متنوعة الشكل والمذاق من خيرات البحر، وحرصوا على أن تتميز هذه الوجبات بصلاحيتها التي تمتد لأيام وفترات طويلة، تواكب طول فترة البقاء في البحر، وقد نجحوا في ابتكار بعض الوجبات البحرية التقليدية، لعل أشهرها «السحناه» أو «الجاشع»، وهي أسماك السردين التي تحافظ على جودتها لفترة طويلة بعد تجفيفها وتمليحها، وهذه الوجبة البحرية التقليدية والبسيطة لاتزال متداولة لدى كافة أفراد المجتمع الساحلي رغم عمرها الطويل، وفي هذه الأيام يحرص بعض السكان على حملها معهم في رحلات السفر إلى دول العالم المختلفة.
الصيادون يعتبرونها الوجبة الأنسب لهم
ارتباط وثيق
المواطن أحمد مبارك الشحي، قال: إن «السحناه» هي اسم قديم لأسماك السردين المجففة والمطحونة، كما يطلق عليها البعض اسم «الجاشع»، وذلك لأنها تقشع من الأرض بعد تجفيفها، ويطلق عليها آخرون مسمى «المتوت» و«المدقوقة» كونها تطحن وتدق في «المنحاز»، وهو وعاء نحاسي أو حديدي صلب صنع خصيصاً لطحن الطعام بضربه وتحريكه بقطعة حديدية، ورغم اختلاف المصطلحات من منطقة إلى أخرى، إلا أن «الجاشع» أو «السحناه» هو الاسم الأشهر والأوفر تداولاً في الإمارات ودول الخليج الأخرى.
وأضاف: إن «السحناه» ترتبط بعملية الصيد بـ«الضغوة» ارتباطاً وثيقاً، نظراً لوفرة أسماك السردين الصغيرة «العومة» أو «البرية» التي تكثر في بعض المواسم، ويطلق مسمى «العومة» عليها لأنها تعوم في المياه القريبة من الشواطئ، ويتم صيدها عن طريق عملية «الضغوة»، التي يظفر من خلالها الصيادون بآلاف أسماك السردين أحياناً، لاستخدامها فيما بعد، في إعداد وجبة مثالية ذات فوائد عديدة تحتوي على الطاقة والبروتين وغيرها من الفيتامينات الجيدة للجسم.
«السحناه» سمك مجفف يدوم فترات طويلة
طرق الحفظ
وقد تستغرق عملية التجفيف من منظور الشحي، من ثلاثة أيام إلى خمسة، وبعد التأكد من أن السردين أصبح جافاً تماماً، تبدأ عملية تنظيفه وفركه باليد ثم تقطع رؤوسه، ويفضل البعض غسله وتجفيفه مرة أخرى، بعد ذلك تبدأ عملية طحنه في «المنحاز»، وتضرب حبات السردين حتى تصبح ناعمة، يضاف إليها نكهات مختلفة منها الزعتر و«السنوت» والفلفل الأسود، ويفضلها آخرون بدون إضافات.
وهناك طرق مختلفة لحفظ «السحناه»، فالبعض يحفظها في زجاجات أو أوانٍ يحكم إغلاقها بحيث لا تتعرض للتأثيرات الخارجية، وتدوم لفترة طويلة، كما يحفظها البعض في الثلاجة، أو في الأماكن الأخرى المعتدلة في درجات الحرارة، ويصلح تناولها حتى بعد عام من تخزينها. وقد كانت «السحناه» في السابق مؤنة رئيسية في الرحلات الطويلة، واليوم لاتزال وجبة رئيسية فوق كثير من الموائد الخليجية، خصوصاً في الأيام التي تندر فيها الأسماك، وترتفع أسعارها نظراً لتقلبات الحالة الجوية.
خورفكان ــ علي الظاهري