تعد منطقة قدفع التي تقع على مسافة 18 كيلومتراً شمال مدينة الفجيرة من أبرز المناطق الطبيعية تقع ما بين الجبال والبحر الدافئ، وتمتد على طولها مساحات من المزارع الخضراء التي تزخر بأشجار النخيل والهامبا والحمضيات بأنواعها . تشتهر القرية بوجود العديد من الآثار التاريخية القديمه أهمها المدفن الجماعي الذي يتكوّن من الحجارة المسطحة والحصى . ويعتبر من أغنى المدافن الجماعية في الدولة، حيث يعود تاريخه إلى الألف الثاني قبل الميلاد، كما تشتهر القرية بوجود عدد من بقايا البيوت القديمة .
تتميز قرية قدفع بخصوبة أرضها ووفرة مائها العذب مما شجع سكانها على زراعة أصناف كثيرة من النباتات والمحاصيل والأشجار في المزارع المتاخمة للجبال بالمنطقة، كما اشتهر سكّان قدفع قديماً ولغاية اليوم بممارسة أعمال الصيد وركوب البحر لموقعها على الساحل البحري، إضافة لإتقان أعمال الزراعة باعتبارهما المصدرين الأساسيين لتأمين العيش الكريم .
“الخليج” زارت القرية لكثرة الحكايات التي تتناول طبيعتها الخلابة وسحرها الذي لا يقاوم حيث تسكن على الساحل البحري لإمارة الفجيرة تعرفنا إلى موقعها المميز بين الجبال العالية والبحر والآثار التاريخية المكتشفة فيها . وبالفعل قدفع عامرة بالخضرة والمياه العذبة وما تتميز به من هدوء وصفاء ونقاء الجو .
يقول علي محمد رشود الشحي “75 عاماً”: “سميت منطقة قدفع بهذا الاسم بسبب وجود أشجار القطن في الماضي بكثرة حيث كانت المنطقة تشتهر بزراعته، ولذلك سأل أحد التجار عن حال القطن فردّ عليه الأهالي إن “قد فاع” ولهذا السبب سميت المنطقة بهذا الاسم” .
وأضاف الشحي: “إن معيشة سكان قدفع في الماضي كانت قائمة على سعيهم للعمل على توفير أقواتهم، لكن ذلك لم يشغلهم عن التعاون في مختلف المناسبات ولا يزال مستمراً حتى وقتنا الحاضر” .
ويقول الشحي: “على الرغم من تعدد القبائل الموجودة في قدفع إلا أن ما يميز أهلها الترابط والتراحم في كل الأوقات استمراراً لعادات الآباء والأجداد من قبائل الشحي واليماحي والحنطوبي والسعدي والمطيري والضنحاني والقيوضي، وهي من القبائل ذات الجذور العربية الأصيلة، عاشوا في المنطقة على الزراعة وتربية الحيوانات وركوب البحر وصيد الأسماك، إضافة إلى القيام بالرحلات التجارية إلى أسواق المدن المجاورة” .
وعن الحياة في الماضي يقول الشحي: “عاش أهالي قدفع في الماضي ظروفاً صعبة وقاسية قبل قيام دولة الاتحاد، حيث كنا نعتمد بشكل أساسي على ركوب البحر والزراعة لسد حاجتنا اليومية من خلال صيد الأسماك وزراعة أشجار النخيل الطماطم والبصل والبطاطا والذرة وغيرها من المحاصيل الزراعية التي كان يتم بيعها أو مقايضتها مع التجار الإيرانيين والبحرينيين وكانوا يحضرون بقواربهم على الساحل البحري للقرية محملة بالزيت والدقيق والأرز والملح وبعض احتياجات الأسر من الأقمشة والملابس وغيرها .
وكنا في ذلك الوقت نعيش بأقل القليل لعدم وجود مصادر رزق متعددة وكانت العشر روبيات كفيلة بمصروف أكبر أسرة طوال شهر كامل، وذلك لوجود البركة والمحبة والتعاون بين جميع الأهالي .
أما علي حسن راشد التحسون 58 عاماً فيقول: “حياتنا كانت صعبة لكن بعد إعلان قيام اتحاد الإمارات تغيرت أنماط حياة أهالي قدفع والمناطق المجاورة وتحولت المساكن المبنية من الطين والحجارة إلى مساكن حديثة غلب عليها الطابع المعماري الحديث، وزاد عدد المساكن الحديثة والمجهزة بكافة الخدمات” . وأضاف: ارتكزت لقمة عيشنا في الماضي على القيام برحلات تجارية لبيع المنتجات الزراعية من التمور والحبوب والمزروعات التي كانت تنتج في موسمها خاصة في الصيف، حيث كانت تكثر منتجات المحاصيل الزراعية في تلك الفترة إضافة إلى تحميل الخيول والجمال والحمير بالحطب والأسماك الجافة “الناشف” والتمور ومنتجات الأغنام والأبقار من سمن وصوف وغيرها وبيعها في أسواق دبا ودبي والشارقة والتي كانت تعرف لدى الأهالي بمناطق الساحل . وكانت الرحلات التجارية تسير في مجموعة واحدة لمواجهة أي صعوبات من قطّاع الطرق الذي كانوا يتعرضون للتجار لسلب منتجاتهم، وكانت الرحلة تستغرق من 4 إلى 6 أيام إلى أسواق دبا ومن 10 إلى 15 يوماً إلى دبي والشارقة .
عبدالله خميس عبدالله يقول: “كانت الحياة في الماضي بسيطة وسهلة وقائمة على البساطة والبركة بين الجميع، بالرغم من وجود الظروف القاسية الصعبة التي كانت تواجه أهالي قدفع إلا انها جميلة وتميزت الحياة في ذلك الزمن بقوة العلاقات والروابط الاجتماعية القائمة على مبدأ الاحترام والمساعدة والتعاون .
وأشار إلى أن منطقة قدفع لا تزال زراعية رغم زيادة نسبة الملوحة بالتربة ورغم شح مياه الأمطار لأن الأجداد والآباء كانوا مزارعين قسموا أراضيها إلى قطع مختلفة الأحجام لكي تبقى خصبة . كما أن طريقة الري المتبعة بين الأهالي كانت تسمى “المسيلة” وهي عبارة عن تحويل مجاري الوديان الناتجة عن الأمطار إلى الأراضي الزراعية المقسمة لكي تمتلئ بالماء .
كان الأجداد والآباء يزرعون على مياه الأمطار، لهذا السبب كانت زراعتهم تقتصر على زراعة الحب واليح ونباتات الغليون الذي يحتاج إلى قدر بسيط من المياه .
وعن دور المرأة في الماضي تقول شيخة أم علي: “كانت المرأة في الماضي تقوم بالكثير من الأعمال لمساعدة زوجها في المزرعة وإحضار الطعام له وإطعام الماشية وكذلك الإشراف على تجارة الرجل وكافة شؤونه في حال غيابه عن القرية، كما كانت تقوم بواجباتها الاجتماعية من خلال المشاركة في الأعراس والمناسبات ولم تكن مسؤولياتها محصورة داخل البيت فقط إنما امتدت إلى المجتمع الذي تعيش فيه فأصبحت عنصراً فاعلاً ومتفاعلاً” .
وتؤكد أم علي: “هناك العديد من نساء المنطقة يحترفن المهن القديمة المعروفة أهمها العلاج بالأعشاب الطبية والنباتات البرية التي تنمو على الجبال خلال موسم الربيع وهطول الأمطار، ومهنة صناعة الخوص التي تعتبر من المهن الشعبية القديمة المعروفة بمنطقة قدفع والمناطق المجاورة، حيث يقمن بانتاج العديد من الصناعات اليدوية مثل المهفة والحصير والسرود والجفير والمكنسة والعريش والحبال والكبة والدعن وغيرها من منتجات سعف وخوص النخيل” .
وتضيف: “بعض أهالي قرية قدفع في الماضي كانوا يعيشون في نوعين من البيوت، الشتوية المبنية من الحجارة والطين وكانوا يقومون ببنائها تحت سفوح الجبال وهناك الصيفية “العريش” المبني من خوص وجريد النخيل وأغصان أشجار السمر والسدر والغاف، وكانت منتشرة على طول الساحل البحري للقرية خاصة في موسم “القيض”، وعاش الأهالي في هذه البيوت على المحبة والتعاون مدركين أهمية العمل والسعي من أجل كسب لقمة العيش الكريم .
يقول عبدالله الشحي: “حياة الأجداد والآباء في الماضي كانت صعبة وقاسية وجافة لشح الموارد، ومع ذلك خلّفت تلك الظروف أجيالاً صلبة العود لا تنحني ولا تنكسر بسهولة، قادرين على التغلب على كافة الظروف والأزمات وتطويعها، كما تعلموا الصبر والشجاعة والتواضع والإخلاص والوفاء والحب للوطن وللقيادة الرشيدة حفظهم الله” .
وأضاف: “الحياة اليوم أصبحت مادية ومكتظة بالمشاغل ومتطلباتها متعددة والصداقه مبنية على المصالح على عكس ما كانت عليه في الماضي حيث كان يسوده المحبة والإخلاص والوفاء .
ويقول راشد عبيد السعدي: “يميز قرية قدفع عن غيرها الهدوء الشديد والخضرة الدائمة للمزارع، وذلك لأن أرضها خصبة ولديها معالم التراث والتاريخ القديم مثل بقايا البيوت القديمة التي سكنها الآباء والأجداد في الماضي، كما تتميز بوجود مدفن جماعي يعد من أقدم وأغنى المدافن في الدولة .
كما تتميز بموقعها على الساحل البحري، حيث يحدها من الشرق البحر ومن الغرب والجنوب والشمال الجبال العالية، وهذا جعل منها موقعاً ذا استراتيجية كبرى، حيث شيدت الدولة أكبر محطة لتوليد الطاقة الكهربائية والمائية لتغذي مناطق الساحل الشرقي، كما تم تشييد أكبر محطة تحلية لمياه البحر” .
خميس عبيد الضنحاني يقول: “يتسم أهالي منطقة قدفع بالطيبة وكرم الاستقبال وحسن الضيافة، إضافة إلى ارتفاع نسبة التعليم والتفوق والانفتاح على المجتمعات والحضارات الأخرى، كما نفتخر بالمنطقة بوجود عدد من الشعراء والأدباء والقيادات الإدارية” .
وأضاف الضنحاني: “شهدت منطقة قدفع تطوراً كبيراً، حيث يوجد فيها مدارس سيف بن حمد الشرقي الثانوية، وزيد بن الخطاب، والمثنى بن الحارث وروضة الشهد، كما أصبح فيها مركز قدفع الصحي وبلدية الفجيرة، إضافة إلى صالة رياضية مغطاة بها مسبح بمواصفات عالمية وملاعب سلة وقدم ويد وطائرة وتنس وصالة وهناك حديقة العقير للعائلات وميناء ومرسى للقوارب وشوارع داخلية منارة، ومصلى للعيد وقاعة أفراح وناد رياضي ثقافي، وهناك أيضاً فرع لهيئة الكهرباء والماء، وأصبحت تشتهر بالفلل الحديثة متعددة الطوابق، والمتاجر .
يقول راشد سعيد: “تمتاز قدفع بأنها روضة رائعة الجمال لكثرة المزروعات الحمضية والهامبا وأشجار النخيل والأفلاج المائية، كما تتماز بمناظر رائعة لوجودها ما بين البحر والجبل، كما تحاط جبال قدفع بمناظر جميلة في مواسم هطول الأمطار، حيث تتجمع المياه بشكل طبيعي فوق الجبال ثم تنساب بروية نحو المنخفضات مشكلة رافداً مائياً غنياً للمزارع المنتشرة في المنطقة .
سعيد السماحي مدير هيئة الفجيرة للسياحة والآثار يقول: “تشتهر منطقة قدفع بوجود العديد من الآثار أهمها المدفن الجماعي الذي يعد من أهم الآثار على مستوى الإمارات، والذي تم اكتشافه عام 1986م، وهو مبني من الحجارة المسطحة والحصى ويعود تاريخه، إلى الألف الثاني قبل الميلاد أو إلى الفترة الانتقالية ما بين العصر البرونزي والعصر الحديدي” . وأضاف: “استدعت هيئة الفجيرة للسياحة والآثار فريقاً من العين للتنقيب في هذا الموقع، تبين أنه مدفن جماعي على شكل حرف U له مدخل ضيق في جهته الشرقية، ويتكوّن من دورين، السفلي تحت مستوى أحجار تبليط الأرضية ويعود إلى قبل الميلاد، والعلوي فوق مستوى الأحجار .
ويضيف السماحي: “إن مدفن قدفع الجماعي تم من خلاله اكتشاف أعداد كبيرة من الأواني الحجرية الأثرية والفخارية والبرونزية، كالخناجر ورؤوس السهام، وبعض الأدوات التي كان يستخدمها سكان المنطقة قديماً في فترة العصرين البرونزي والحديدي .